أخبار ثقافية

قراءة أولى في مسرحية  ” 9” لمعّز القديــــري / حين يخدعك صاحب العمل إلى صندوقه السحري لتشاركه  صراعه في ” العبور الأخــير” ”دراماتورجيا ”غير منصوح بها لأصحاب القلوب الضعيفة

صفا-نيوز/كتبت سميرة الخياري كشو

ضباب يخنق الأنفاس ثلاث شخصيات مجهولة الملامح تجلس الى صندوق متحرّك دون حراك في عرض يستقبل جمهوره الى ظلام حالك ..فلا ستار يُفتح ولا ستار يُغلق ..لا بداية تُعلن ولا نهاية تُدرك ..حتى يخُيل إليك أن تلك الأجساد الثلاثة التي هي بلا حراك هي جزء من ديكور صنمي متروك الى زاوية مهجورة …

تتقدّم احدي تلك الشخصيات التي تتحرك وسط كل ذاك الضباب المربك الى لوحة اشبه بعمود ميكروفون عرض موسيقي تتوسطها تلك النوتات الموسيقية حيث يحتلها قائد الاوركستر ..

لكن يباغتك صوت إحدى الشخصيات التي كانت عالقة الى الصندوق ذو العجلات المتحركة بصوته المهّتز فلا تدري ان كان مختلا عقليا مصاب بحالة هيجان داخلي أو هو مشرّد يجلس الى رصيف مهجور ذات شتاء بارد في شوارع خلفية لمدينة مهجورة .

ينطفئ ما تبقى من الأضواء …ينطلق العرض الصامت الصاخب في ذات الزمن بحركات أشبه هي الى نوبات صرع.. يسقط جسد ..يقف  جسد ويجلس اخر الى الجمود ..يتحرك الى الصندوق ..

 الصندوق الأقرب الى صندوق الساحر الذي رافقنا عروضنا المدرسية حيث يمكنه أن يضع فيه تقنياته ومقتنياته وأحيانا ذاك الجسد الذي يمكنه أن يقطعه الى نصفين ومن ثم يعيده الى الحياة ..

فلا تدرك نفسك وانت تشاهد العرض لاول مرة ان كنت امام عرض سحري قد يفاجئك صاحبه ببعض التشويق أم أنك أمام طقوس تعيد تدبّر أمر الى واجهة الاحداث  أم هو واجهة حلم أقرب الى كابوس لشخصية قادمة من وطن غريب ..

فتبحث في قرارة نفسك عن الخدعة..خدعة الصندوق السحري..

لكنك تكتشف وسط العرض أنك نفسك ذات الخدعة ..بأن أدخلك صاحب العمل الى الصندوق من خلال جلوسك الى عتبة المسرح ..ليحوّلك الى جزء من العرض تُعايش الصراع داخل الصندوق نفسه ..

يُصبح صوت العارض مسموعا يُشبه الموت بالموت.. والموت ببروفة للحياة في ممثلين بلا ملامح لا تخلو من خلفية مُربكة للذاكرة مرفوقة بضوضاء متداخلة صراع بين الوهم والصور من الماضي  فتتساءل في قرارة نفسك وانت تتابع العرض هل هو جنون؟

هل من الجنون؟

هل من الجنون أن تحمل إحدى الشخصيات دفتر نوتاتها الاقرب الى كتاب سيناريو لترى الحقيقة التي يدعُوك لاغماض عينيك كي تراك ؟

لكنه هو ..هو سواء كان حامل النوتة او معانق الصندوق لا يراها ليُعلن ان البشر شّر ..قبل ان يلقي بجسده الى الصندوق السحري بحثا ربّما عن استعادة للحياة ..

جسد يرفض الموت يعود ليرتمي الى خارج صندوقه السحري قبل أن يواجهه ذاك الصوت الانثوي الذي غاب عن واجهة معلّقة المسرحية وكانما اخفاه صاحب العمل عمدا فلا تراه الّا الى ساحة العرض وهو يواجه الشخصيّتين ذوات الصوت الذكوري بسؤال انكاري مفرد لماذا تتعب نفسك؟

ويعلمه بالاعّودة .. وبين العودة والاّعودة يدخل الجسدان في صراع مع ذاكرة الجسد بين ذاكرة أنثى وصوت ذكر وصراع داخلي يأبى الرحيل وجسدين تائهين يحملان صراعا داخليا بين عازم على البقاء حالم بالعودة وبين روح تائهة تبحث عن مرفأ سلام للرحيل .

تهاجمهما الموسيقى الصاخبة للحضات هي أقرب الى جلسة كهرباء داخل غرفة علاج بمستشفى للمجانين حيث يسقط الضوء الى الأرض أو هي جلسة علاج نفسي تمتد الى سنوات خوالي حيث كانت تلك الرقعة نفسها التي يقف اليها الكائن مسرحا  لمستشفى قديم  ؟

لا شي ء يحمل صورة واضحة هنا … يسترجع صورة طفولية موجوعة محفوفة بالخوف تتقدمها تلك الصورة الانثوية من الاعماق فقط لا تزال تتحرك هنا وهناك تدعوه للرحيل فلا تُدرك ان كانت هي تلك الروح التي ترى الحقيقة التي لا مفر منها والى جسد لا يريد الرحيل يتلصص الى صندوقه السحري الحامل لطقوس العودة متجاهلا صوته الداخلي الذي يحاول هو الاخر مساعدته على استرجاع البعض من ذكريات جسده الذي بدأ يلّفه النسان .

وحدها هي الانثى تقف الى نقطة النور

الاثنان يلتحفان بذاك الطقم الذي لا تراه الا ظلالا مخفية ..وحدها هي الانثى تقف الى نقطة النور طريق التحررّ ومسار العبور حافية القدمين لا ملامح تنيرها الا ظفيرتها التي تجالس إحدى كتفيها ..

وتدعو كلاهما ليتقبل أحدهما الاخر أو هي تتحدث الى أحدهما فيستمد منها الاخر بعضا من الطاقة للذكريات المنسية..

كل شيء هنا مدعو الى النسيان ..صراع للتذّكر ..صراع للبقاء ..صراع للبحث عن طريق للعودة ..ولا تُدرك نفسك هل أنك داخل الصندوق أم خارجه ..

هل أنت داخل الصندوق السحري الذي يمكنه ان يعيدك الى الحياة كما حملك منها ؟ ام هو ليس الا قبرا انتقل الى قاعة العرض لتتحول ساحة العرض نفسها الى قبر مهجور بظلامه وضبابه الحاجب للرؤيا ..فيُدخلك صاحب العمل الى مكان أنت نفسك ترفض حتى التفكير فيه ويدعوك بين الفينة والاخرى الى ان تغمض عينيك لترى ما يرى …

هل هو كائن يصارع ذاته ..أم هو ذات تصارع قرينها ؟ ام الاثنين معا يتصارعان روحا بما تحمله من الحقيقة ..روحا تشاركهما أطروحة البقاء والصراع وتختفي من واجهة معلقة العرض …

يُحدثك عن ثلاث مائة الف عام وكانما هو قادم من المستقبل البعيد ولم يجد بعدُ مسارا للعبور ..او هو يجلس الى ‘ البرزخ’ يصارع حلم العودة لكنه لا يعود ..

فتعود الشخصيتين لتتصارعا من جديد يلوم كلاهما الاخر بحسب رؤيته للاحداث ..

يريد ظّل الاول ان يعود ويربكه ظلّه او قرينه او هي ذاته .. وقد تكون نفسه بانه لا عودة وعليهما العبور ..قبل ان يلقيا بنفسيهما الى اعلان تواريخ في الزمن القريب من ضمن هروب الى جسد الذكريات..

فتتساءل ان كان العالق الى هذا الصندوق السحري او الى القبر هو طفل الخمس سنوات ام هو طفل الثلاثين والا لما استرجع صاحب العمل ترددات التسعينات والالفينات والثلاثينات  كانما هي صوت يكرر ذاته الى تراقيم على صوت موسيقى متقطعة مزعجة وضوضاء حزينة تشبه تلك التي ترافق ملحمة الجنائز لوداع موجع ..

يتّهم الانثى بالخوف .. وتتهمه نفسه بالارتباك ويتهمها هو بالاشيء ..فلا هو مجنون ولا هو مصاب بحالة صرع..

أم هو ربّما ضحّية أو هو مجرد كائن بشري عالق بين عالمين يتصارع مع تواريخ العشرينات والاربعينات والتسعينات …فتدخل أنت نفسك الى داخل هذا الصراع …مرتبكا بالتواريخ الهيستيرية التي تحمل فجوات تاريخية ..

ورغم محاولة الجسدان البحث عن التصالح بأن يطلب أحدهما التسامح من الاخر الا أّن الصراع يتواصل وكانما احدهما ينازع الاخر ويرفض اللقاء الى داخل الجسد ..

فلا يوجد لقاء خارج الجسد أيضا ورغم موته يخاف البشر ويرفض المغادرة كما يرفض البقاء الى الصندوق المتحرّك أو هو القبر وينتظر العودة محاولا محاربة الظلام الى داخل الصندوق ..

الصندوق السحري وسط اصوات جنائزية منتحبة تأخذك دون ان تدري الى اماكن بعيدة حيث تُزف تلك الاصوات المنتحبة الى الريح وتعيدك الى الصندوق الذي يحاول الجلوس اليه رافضا الخلود الى النوم …

الدنيا هي بروفة للحياة

فالنوم هو الموت والدنيا هي بروفة للحياة كما تذكره تلك الصورة الانثوية للروح الهادئة التي تدعوه دوما وتباعا الى القبول بالرحيل وهي تلتفت الى نقطة الضوء وكانما تستشعر طريق العبور الى الحرية ..قبل ان تتجه هي الاخرى الى حاملة النوتات التي تتحول الى ريح تتقاذف تلك الورقات تباعا وبحركات متسارعة..

ثم يومض ذلك الضوء لبعض الثواني وسط الظلام ..لا نهاية ..لا ستار  يُسدل..يتعانق فيه الثلاثي الى خشبة المسرح ..قد تكون الروح وقد يكون الجسد وقد يكون القرين أو الاخر الذي يسكنُنا ..

الثلاثي الذي كان يجلس دون ستار يُرفع دون حراك …يتعانق في اخر صراع مفتوح الى ستار لا يُغلق هو الاخر أيضا ..

هل خُدعنا الى داخل الصندوق

وكانما صاحب العمل حملنا جميعا الى داخل الصندوق قبل أن يجعل القاعة نفسها هي الصندوق نتشارك تفاصيله مع صراع الجسد والروح والقرين ..الروح التي تعرف طريقها الى مسار النور فيظلّ الجسد والأنا يواجهان بعضهما البعض البعض كما يواجه إسم المسرحية نفسه ..

فليس إعتباطيا أن أختار صاحب العمل رقم تسعة واجهة لعرضه المسرحي فكّل تفصيل هنا هو مدروس ضمن الخدعة …

خدعة أن ينقُلنا الى داخل تلك الحفرة التي نرفض ان نواجهها …. الحفرة التي زيّنها لنا بصورة صندوق سحري متحرك حامل لعجلات دوّارة ..نرفض الموت ..نرفض الرحيل ..نرفض المغادرة ..نرفض القبول بالحقيقة ..رغم صوت بعض الايات القرانية التي تُسمع لتنبعث فيك نوعا من الطمأنينة ..

هنا ترى الأنا والجسد يتقابلان يتواجهان يتصارعان ويتجادلان وبينهما الرقم 9 الذي يمكن لكلاهما ان يراه من منظوره الخاص ..فكلاهما يراه رقما صحيحا لكنما يقفان الى وجهيهما ..

وتدرك في نهاية الأمر ان الصندوق السحري الحامل للخدعة هو ذاك القبر الذي سندخله جميعا كما ندخل الى قاعة العرض ضمن عرض   دراماتورجي  تختلط فيه الحياة الداخلية والخارجية للشخصية في نفس الوقت.

ولا نُدرك أي الشخصّيتين هو الحامل لعنوان المسرحية ”9” هل هو الجسد أم الأنا التي غادرت الجسد وتريد ان تفوز بمرحلة التحّلل لتتمكن من العبور أم هو الجسد أو الاّوعي الذي يحلم بالعودة من خلال الصندوق السحري المتحّرك ذو العجلات ..الذي ربّما اختاره لنا العمل خصيصا لنستشعر وكأنما هو صندوق ساحر قادم من سنوات التسعينات …

أبدع الثلاثي المسرحي الشاب في هاته السفرة الى عالم البرزخ ..أبدع في ان يواجهنا بالحقيقة التي لا نريد ان نراها ..وخدعنا صاحب العمل ..بأن حوللنا جميعنا الى ساكني هذا الصندوق ..الصندوق المهجور الى مكان منسي ….لا يشاركنا فيه أي من الغرباء ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »