
صفا / نيوز /سميرة الخياري كشو
حين تستمع الى عنوان مسرحية ”جرانتي العزيزة ” ياخذك خيالك مباشرة الى طفولتك المتأخرة فتتخّيل عرضا للأطفال يتحدث عن طفل يعايش ضفدعته الصغيرة في مراحلها الأربع وكيف جاهد لينقذ حياتها لترافقه في مجالات التكّيف للبقاء على قيد الحياة .
لكن حين تدرك ان العمل الفني هو للمسرحي الكبير ”فاضل الجزيري” تضحك كثيرا على طفولتك المتاخرة التي جعلتك تعتقد انها قصة للاطفال ….
وتدرك انك مؤكد امام عمل يؤرخ لفترة ما.. يسترجع فيها المبدع مذكراته القديمة مع ضفدعه الصغيرة وياخذك خيالك الخصب الطفولي الذي يقتحم عقلك دون استئذان لتعتقد كون صاحب العمل سيعايشنا فترة زمنية ما من نضالاته الطفولية وهو يصارع محيطه العائلي للحفاظ على ضفدعته التي هي ”جرانتو العزيزة” وتسرح بخيالك فتتوهم ان ذاك الطفل اكيد عثر على شرغوفه تائها في البحيرة وحمله الى غرفته الصغيرة لينقذه من برد الشتاء وكيف كان يخفيه بين الحين والاخر عن والديه ..
وتتخيل سيناريوهات وسيناريوهات مليئة بالتشويق لطفل يتخفى مع شرغوفه داخل غرفته وكيف انك ستتعايش مع مرحلة من مراحل نضال طفولي يشبهك لابقاء هذا الصغير والتعامل مع هذا البرمائي في مراحله الاربع مع الحياة المليئة بالتغييرات والتكيفات .
ولكنّك وبمجرد ان تشاهد معلقة العرض وتجد ان المسرحية عنوانها الفرنسي هو ” Le violon ”
وان ”جرانتي العزيزة ”هي الكمنجة ..تنتابك تلك السخرية المفاجاة بوتيرة ضحكة مسترسلة عالية نابعة من الأعماق ..من طفولتك المتاخرة الساذجة ومن خيالك الخصب الذي حملك الى طفولة ” الصوص ”و”الكتكوت” ..الذي جاهدنا طويلا ونحن اطفال لان نحميه من الموت كي يحيى بينا لأيام اخرى …

وتدرك كيف تلاعب بنا فاضل الجزيري قبل ان ندرك العرض ..تلاعب بمخيلتنا واطلق طفولتنا وتاريخنا وومضات الماضي حتى قبل أن تخط أقدامنا ساحة المسرح .
بين ”جرانتي العزيزة ” وبين ”الكمنجة” ..تدرك انك تحتاج فعلا الى الولوج الى هذا التلاعب الفني في العنوان فيجذبك دون أن تدري لتتابع عرض جرانتي العزيزة الى خشبة مسرح الحمامات وانت لا تدرك انه العرض الاخير لفاضل الجزيري لتجد نفسك وقد تلاعب بك ايضا في رحيله حيث كان يحتضر مع ساعات عرض مسرحيته الاخيرة .وكأنما يدعوك لان تعيش رؤيته الداخلية التي ابى الا ان يؤرخها الى مسرحية .
المسرحية التي تجلس اليها لتتابعها بشغف طفولي يجلبه اليك العنوان ..ووسط العرض تتابع اخبار الكيان الذي اغتال في تلك اللحضات فريقا صحفيا كاملا منهيا حياته في قصف غادر …

ولست تدرك نفسك في تلك اللحظة اين انت؟
انت وسط مسرحية ”جرانتي العزيزة” او ”ومضات الماضي ”التي عادت بك الى طفولتك والى ازقتك القديمة وشوارع المدينة والى عناوين منسية والى تونس العمق …والى تفاصيل تجعلك لا تستطيع ان تغادر مقعدك حتى لا يفوتك عنوان يذكر …و الى وجع يضاف الى وجع الذكريات..
تستمع الى معزوفات على البيانو ..تتخللها عزف على الكمنجة او على الجرانة بمصطلحنا الشعبي التونسي …
وتاخذك الموسيقى والعزف المنفرد لإلياس البلاقي الى عالم اكثر جمالا ..وسط هدوء المكان وصوت اشراق مطر..
ليس سهلا ان تستمع الى حركات ممثلة الى خشبة المسرح وتشاهد صوتها يراقص ستائر مخفية …
ثم تعود الى الشخصية شخصية البطل الذي يتحول الى شخصيتين ..شخصية العازف المبدع على الة الكمنجة وشخصية المواطن الذي يحتاج ان يعيش ..
وانت لا تدري هل تكون حياة الكمنجاتي بعيدة عن حياة اي من الشخصيات التي تعيش في ظلال الابداع الداخلي ؟
ما الفرق بين ”جرانتي العزيزة” وبين قلم صحفي يتيم؟ ما الفرق بين عازف على الكمنجة يصارع البقاء الداخلي كفنان وبين الحياة البشرية التي تتطلبها الدورة الحياتية وبين صحفي يحتاج هو الاخر ان يبدع ويمارس حريته كما تمارس الكمنجة حريتها ؟
او بين رسام يمتطي ريشته المهرئة والتي تحتاج الى الوان لان يمارس خياله بحّرية .؟.

ثم تأحذك المسرحية وانت تتعايش مع تفاصيلها الى ذكريات التفاصيل الى الاماكن تنقلك بسرعة الى الازقة والانهج والاحداث والذكريات ..ذكريات ارختها الكتب واخرى عايشتها وبعض من مشاهد ما كنت تعتقد ان ذاكرتها تتعرف اليها ..
عازف البيانو فاقد البصر الذي يقوده شريكه الى ساحة العرض ..ينقلك الى فرقة الاذاعة حين كانت تبث اعمالها وهم يقودون احد العازفين الى خشبة المسرح ..وتقتحم البعض من الاسماء مخيلتك فتجد نفسك داخل ذاكرة عازف كمنجة في فرقة الاذاعة يسترجع ذكرياته ..لكن الحقيقة هو انك تسترجع جزءا من ذاكرتك الى ذاكرة تونس ..والى اسماء مهما حاول الكثيرون طمسها الا انها أبت ان تموت ..
ولا تدرك حينها هل انك فعلا تتجول داخل عقل عازف قديم ام داخل عقل فاضل الجزيري الذي تخفى الى واجهة عازف كمنجة وفي عنوان طفولي .؟
فتستشعر ان فاضل الجزيري افتك منك اشياء كثيرة وأقحمك الى تونس الداخل كي لا تنسى …
وكانما أراد بنا قبل رحيله ان يترك لنا اثرا يقول انه لا يجب ان ننسى ….

خاصة وان العرض الاخير كان الفاضل الجزيري نفسه يحتضر الى نزول الستار على حياته ليرحل تاركا إرثا من الإبداع سيبقى حاضرا في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى التونسية والعربية.
مسرحية ”جرانتي العزيزة ”حملتنا ظاهريا عبر شخصية ماهر الى رحلة حياته المهنية التي امتدت لنصف قرن في فرقة الإذاعة الوطنية كاشفا تداخل الفن بالسياسة وكيف ظل الفنان شاهدا وشريكا في صناعة المشهد العام لكنه في الحقيقة حملنا الى جولة في تاريخ تونس ..الفاضل الجزيري الذي ساهم في حياته في نشر اللامركزية الثقافية و مؤسسا لمهرجان المدينة وفرقة مسرح الجنوب بقفصة ومركز الفنون بجزيرة جربة.
فاضل الجزيري الذي خلق نقلة نوعية في العروض الموسيقية والمسرح والسينما
بين “النوبة” و”الحضرة” و”نجوم” و”كاليغولا” “العرس” و”غسالة النوادر” و”عرب” و”ثلاثون” و”خسوف” الى جرانتي العزيزة ..أسدل الستار الاخير الى فنان مبدع ..ترك أثره الى الواقع الثقافي التونسي .اختار ايضا ان يرافقه اصدقاؤه الى مثواه الاخير بلباس ابيض وكانما اراد ان يقول لنا انه مبدع في اخراج أخر الطريق أيضا .
عرض ”جرانتي العزيزة ” أحتاج الى مشاهدته فعرض واحد لا يكفي .