مسرحية ” تمثال حجر” حين يزعزع المسرح قداسة التاريخ


صفا-نيوز/تونس / بقلم حليمة السويسي
يشهد شارع الحبيب بورقيبة هاته الأيام ازدحاماً موسميا من نوع آخر ليس ازدحام السياسة والمظاهرات فقط، بل ازدحام الأسئلة الكبرى التي تخرج بها الجماهير من العروض المسرحية التي تزدحم بها القاعات هي الاخرى في الدورة الـ26 لأيام ”قرطاج المسرحية”.
غادر جمهور قاعة المونديال الذي حضر مساء الثلاثاء 25 نوفمبر عرض مسرحية «تمثال حجر» للمخرج كريم عاشور محملًا بتساؤلات ثقيلة، مشوّش التفكير…
إلى أي مدى يُشبه أبطالنا الحقيقيون صورهم المُعلّقة الى الجدران؟ وهل كتب المؤرخون التاريخ فعلاً، أم كتبوا أكاذيبهم فصارت هي التاريخ؟
تخرج من القاعة تتمشي دون وجهة محددة لتتوقف في منتصف الشارع الكبير للاستقلال
الزعيم الحبيب بورقيبة على يمينك و على يسارك تمثال العلاّمة ابن خلدون.
تحدّق بهما مخاطباً نفسك في صمت.. هاتان الشخصيتان الفارقتان في تاريخ تونس، إلى أي مدى كانت رواية المؤرخين صادقة عنهما ؟
هل كانوا أمناء حقاً في نقل التاريخ؟
أم أنّهما أبطال صدفة صُنعوا بأقلام المؤرخين وأزاميل النحاتين؟ ومن يمتلك الحقيقة؟ وهل التاريخ الذي نُعلّمه في الكتب هو الحقيقة، أم أنه أكاذيب ناجحة تحولت إلى حقائق؟
تختلف الروايات بين ما تكشفه الكتب المدرسية وما تعريّه الكتب المطبعية …البعض يراه المنقذ والمحرّر والمجاهد الأكبر، والبعض ينعته بالزنديق عميل الاستعمار..
وهل أن صاحب المنحوتة هو نفسه الحامل للكتاب متوسطا كاتدرائية ” القديس فنسون دو بول ”
و” قصر المعمّرالفرنسي ” ؟ أم ان النحّات رسم نفسه أمام المراة ليخلّد وجهه هو لا وجه من خطط المقدّمة ؟
لا احد يعلم أي الروايتين أصدق؟
هذا بالضبط ما تفعله المسرحية تأخذنا إلى كلّية تحتفل بمرور ثلاثين عاماً على «استشهاد» بطل الحرب الأسطوري «نوت».
يُكلَّف نحّات شاب بصنع تمثاله الرسمي… يبدأ النحات بحثه ببراءة، فيجد نفسه أمام فراغ مرعب.. لا صور، لا شهود، لا وثائق إلا ما كُتب بأمر السلطة.
ثم تبدأ الأقنعة بالسقوط الواحدة تلو الأخرى…. يقتحم المسرح «مهدي»، الشاب الغاضب الذي يشكّك في كل شيء ويدّعي أنه يمتلك حقيقة البطل «نوت»، ليكتشف في نهاية المسرحية أنه في رحلة بحثه عن حقيقة البطل «نوت» أنه كان يبحث عن حقيقته هو، التي سيكشفها له «موجة»… البحار المتقاعد المُثخن بالخمر، فيفجر القنبلة…أنه هو نفسه «نوت» الحي!…وانه لم يكن بطلاً بل مهرّب مخدرات وقع في الأسر صدفة وكانت شحنته هي التي أضعفت العدو ومنحت النصر العبثي.
أرادت القيادة العسكرية دفن الحقيقة معه، فهرب وغيّر هويته.
ويكشف أيضاً أن مهدي هو ابنه من علاقة حّب سرية… في لحظة قاسية، يقتل الابن أباه بعد أن عرف الحقيقة من «غزل» الشخصية البسيطة التي تختار العيش على الهامش والصمت شأنها شأن أبناء الأحياء المهمّشة، تلقائيّتها خدمت دون قصد منها إرادة السلطة التي سعت لإسكات وطمس الحقيقة….
في الجهة الأخرى من الحقيقة ، يمارس العميد والمدير المخنث كل أشكال الضغط والإغراء على النحات كي ينجز التمثال «الكاذب».
وهنا يقف النحات أمام الامتحان الأصعب لكل فنان ولكل مثقف… فإما أن يكون أداة في يد السلطة وبوقاً من أبواقها، أو صوتاً حراً لمجتمعه.
فيختار الفنان أن ينتصر للحقيقة فيحطّم التمثال أمام الجمهور، وتنطفئ الأضواء.

ثم تعود الأضواء لتكشف فريق العمل كاملاً – رامي الشارني، حسام المبروك، أحمد الحشيشة، حمدي عبد الجواد، أيمن الخبوشي، صادق مزيون، والكاتب حاتم الحشيشة – يصعدون الخشبة مرتدين الشارة الحمراء تضامناً مع طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية الذين يحتجون منذ افتتاح المهرجان.
”تمثال حجر لم تكن مجرد مسرحية، بل كانت عملية هدم جماعي للأصنام التي بنيناها بأيدينا.







